سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
اعلم أنه تعالى لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم، وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القرطبي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت هذه الآية.
قال مجاهد والحسن ومقاتل: ثامنهم فأغلى ثمنهم.
المسألة الثانية: قال أهل المعاني: لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك، ولهذا قال الحسن: اشترى أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة، وحقيقة هذا، أن المؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتل، فتذهب روحه، وينفق ماله في سبيل الله، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل. فجعل هذا استبدالاً وشراء. هذا معنى قوله: {اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} أي بالجنة، وكذا قراءة عمر بن الخطاب والأعمش.
قال الحسن: اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة، بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة.
وقال الصادق عليه الصلاة والسلام: «ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها».
وقوله: {وأموالهم} يريد التي ينفقونها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم، وفي الآية لطائف:
اللطيفة الأولى المشتري لابد له من بائع، وهاهنا البائع هو الله والمشتري هو الله، وهذا إنما يصح في حق القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء، وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة، فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيهاً بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه، وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة، والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة، والعفو عن الذنوب، والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات.
واللطيفة الثانية: أنه تعالى أضاف الأنفس والأموال إليهم فوجب أن كون الأنفس والأموال مضافة إليهم يوجب أمرين مغايرين لهم، والأمر في نفسه كذلك، لأن الإنسان عبارة عن الجوهر الأصلي الباقي، وهذا البدن يجري مجرى الآلة والأدوات والمركب، وكذلك المال خلق وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب، فالحق سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب وهذا المال بالجنة، وهو التحقيق. لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل، وهو البدن والمال، امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة، فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل، والمال للإنفاق في طلب رضوان الله، فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى، والمولى على الدنيا، والآخرة على الأولى، فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار، فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو الله، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والهم والغم زائل، ولهذا قال: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ}.
ثم قال: {يقاتلون فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} قال صاحب الكشاف: قوله: {يقاتلون} فيه معنى الأمر كقوله: {تجاهدون فِي سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} وقيل جعل {يقاتلون} كالتفسير لتلك المبايعة، وكالأمر اللازم لها. قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين، والباقون بتقديم الفاعل على المفعول.
أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر، لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين.
وأما تقديم المفعول على الفاعل، فالمعنى: أن طائفة كبيرة من المسلمين، وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة، بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء. قاتلين لهم بقدر الإمكان، وهو كقوله: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 146] أي ما وهن من بقي منهم.
واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا؟ فمنهم من قال: هو مختص بالجهاد بالمقاتلة، لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله: {يقاتلون فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} ومنهم من قال: كل أنواع الجهاد داخل فيه، بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة. وأيضاً فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثاراً من القتال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس» ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة.
وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة. والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم، ولا فساد في ذاته، إنما الفساد في الصفة القائمة به، وهي الكفر والجهل. ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة، مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى. ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه، لا جرم حث الشرع على إبقائه، فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة، وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة، والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات، فكان المقام الأول أولى وأفضل.
ثم قال تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التوراة والإنجيل والقرءان} قال الزجاج: نصب {وَعْداً} على المعنى، لأن معنى قوله: {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} أنه وعدهم الجنة، فكان وعداً مصدراً مؤكداً.
واختلفوا في أن هذا الذي حصل في الكتب ما هو؟
فالقول الأول: أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت، فقد أثبته الله في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن.
والقول الثاني: المراد أن الله تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، كما بين في القرآن.
والقول الثالث: أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} والمعنى: أن نقض العهد كذب. وأيضاً أنه مكر وخديعة، وكل ذلك من القبائح، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها، فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزهاً عنها. وقوله: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أحد أوفى بما وعد من الله.
ثم قال: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وذلك هُوَ الفوز العظيم} واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات: فأولها: قوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة، وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد.
والثاني: أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد.
وثالثها: قوله: {وَعْداً} ووعد الله حق.
ورابعها: قوله: {عَلَيْهِ} وكلمة على للوجوب.
وخامسها: قوله: {حَقّاً} وهو التأكيد للتحقيق.
وسادسها: قوله: {فِي التوراة والإنجيل والقرءان} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة.
وسابعها: قوله: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} وهو غاية في التأكيد.
وثامنها: قوله: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} وهو أيضاً مبالغة في التأكيد.
وتاسعها: قوله: {وذلك هُوَ الفوز}.
وعاشرها: قوله: {العظيم} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق. ونختم الآية بخاتمة وهي أن أبا القاسم البلخي استدل بهذه الآية على أنه لابد من حصول الأعواض عن آلام الأطفال والبهائم.
قال لأن الآية دلت على أنه لا يجوز إيصال ألم القتل وأخذ الأموال إلى البالغين إلا بثمن هو الجنة، فلا جرم قال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} فوجب أن يكون الحال كذلك في الأطفال والبهائم، ولو جاز عليهم التمني لتمنوا أن آلامهم تتضاعف حتى تحصل لهم تلك الأعواض الرفيعة الشريفة، ونحن نقول: لا ننكر حصول الخيرات للأطفال والحيوانات في مقابلة هذه الآلام، وإنما الخلاف وقع في أن ذلك العوض عندنا غير واجب، وعندكم واجب، والآية ساكتة عن بيان الوجوب.


{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه {اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في رفع قوله: {التائبون العابدون الحامدون السائحون} وجوه:
الأول: أنه رفع على المدح، والتقدير: هم التائبون، يعني المؤمنين المذكورين في قوله: {اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} هم التائبون.
الثاني: قال الزجاج: لا يبعد أن يكون قوله: {التائبون} مبتدأ، وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً، وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} وهذا وجه حسن. لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلاً لجميع المؤمنين، وإذا جعلنا قوله: {التائبون} تابعاً لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين.
الثالث: {التائبون} مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله: {يقاتلون} الرابع: قوله: {التائبون} مبتدأ، وقوله: {العابدون} إلى آخر الآية خبر بعد خبر، أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال.
وقرأ أبي وعبد الله {التائبين} بالياء إلى قوله: {والحافظين} وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ذلك نصباً على المدح.
الثاني: أن يكون جراً، صفة للمؤمنين.
المسألة الثانية: في تفسير هذه الصفات التسعة.
فالصفة الأولى: قوله: {التائبون} قال ابن عباس رضي الله عنه: التائبون من الشرك.
وقال الحسن: التائبون من الشرك والنفاق.
وقال الأصوليون: التائبون من كل معصية، وهذا أولى، لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر، وقد تكون من المعصية. وقوله: {التائبون} صيغة عموم محلاة بالألف واللام، فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم.
واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة: أولها: احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه.
وثانيها: ندمه على ما مضى.
وثالثها: عزمه على الترك في المستقبل.
ورابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض، فهو ليس من التائبين.
والصفة الثانية: قوله تعالى: {العابدون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم.
وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة، وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم، ولابن عباس رضي الله عنهما: أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب، وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية.
قال الحسن: {العابدون} هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء.
وقال قتادة: قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
الصفة الثالثة: قوله: {الحامدون} وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا، وهم الملائكة، لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك، وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا. لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى، وهو {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] وهم المرادون بقوله: {والحامدون}.
الصفة الرابعة: قوله: {السائحون} وفيه أقوال:
القول الأول: قال عامة المفسرين هم الصائمون.
وقال ابن عباس: كل ما ذكر في القرآن من السياحة، فهو الصيام.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «سياحة أمتي الصيام».
وعن الحسن: أن هذا صوم الفرض. وقيل هم الذين يديمون الصيام، وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم، وجهان:
الأول: قال الأزهري: قيل للصائم سائح، لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه، كان ممسكاً عن الأكل، والصائم يمسك عن الأكل، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً.
الثاني: أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة، وترك المشتهي، وهو الأكل والشرب والوقاع، وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات، انفتحت عليه أبواب الحكمة، وتجلت له أنوار عالم الجلال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «من أخلص لله أربعين صباحاً، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام، ومن درجة إلى درجة»، فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات.
والقول الثاني: أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم، وهو قول عكرمة، وعن وهب بن منبه: كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئاً، فقال: يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي، فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس، فلابد له من الصبر عليها، وقد ينقطع زاده، فيحتاج إلى التوكل على الله، وقد يلقى أفاضل مختلفين، فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة، وقد يلقى الأكابر من الناس، فيستحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة، فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته، وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين.
والقول الثالث: قال أبو مسلم: {السائحون} السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح، سيح الماء الجاري، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات.
الصفة الخامسة والسادسة: قوله: {الراكعون الساجدون} والمراد منه إقامة الصلوات.
قال القاضي: وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده. والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها. فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة: قوله: {الأمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ كتاب كبير مذكور في علم الأصول. فلا يمكن إيراده هاهنا. وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد، لأن رأس المعروف الإيمان بالله، ورأس المنكر الكفر بالله. والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان، والزجر عن الكفر. والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما دخول الواو في قوله: {والناهون عَنِ المنكر} ففيه وجوه:
الوجه الأول: أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى.
قال تعالى: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِي الطول} [غافر: 3] فجاء بعض بالواو، وبعض بغير الواو.
الوجه الثاني: أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فالله سبحانه ذكر الصفات الستة، ثم قال: {الأمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} والتقدير: أن الموصوفين بالصفات الستة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه؛ هو الجهاد، فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا.
الوجه الثالث: في إدخال الواو على هؤلاء، وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه، ولا تعلق لشيء منها بالغير.
أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير، وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة، وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله، فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات، فأدخل عليها الواو تنبيهاً على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة.
الصفة التاسعة: قوله: {والحافظون لِحُدُودِ الله} والمقصود أن تكاليف الله كثيرة وهي محصورة في نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالعبادات.
والثاني: ما يتعلق بالمعاملات.
أما العبادات فهي التي أمر الله بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا، بل لمصالح مرعية في الدين؛ وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر.
وأما المعاملات فهي: إما لجلب المنافع وإما لدفع المضار.
والقسم الأول: وهو ما يتعلق بجلب المنافع: فتلك المنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية؛ أما المنافع المقصودة بالأصالة، فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة: فأولها: المذوقات: ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه. ولما كان الطعام قد يكون نباتاً، وقد يكون حيواناً، والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح، والله تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة، فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح، وكتاب الضحايا.
وثانيها: الملموسات: ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله، وهو باب النكاح، ومنه أيضاً باب الرضاع، ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز، ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح، ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان. ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات: البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل، وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله؛ وما لا يحل. كاستعماله الأواني الذهبية والفضية؛ وطال كلام الفقهاء في هذا الباب.
وثالثها: المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل.
ورابعها: المسموعات: وهو باب هل يحل سماعه أم لا؟.
وخامسها: المشمومات، وليس للفقهاء فيها مجال.
وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال، والبحث عنها من ثلاثة أوجه: الأول: الأسباب المفيدة للملك وهي إما البيع أو غيره.
أما البيع فهو إما بيع الأعيان، أو بيع المنافع وبيع الأعيان.
فأما أن يكون بيع العين بالعين، أو بيع الدين بالعين وهو السلم، أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئاً في الذمة، أو بيع الدين بالدين. وقيل: إنه لا يجوز. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين.
وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة، وكتاب الجعالة، وكتاب عقد المضاربة.
وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث، والهبة، والوصية، وإحياء الموات، والالتقاط، وأخد الفيء والغنائم، وأخذ الزكوات وغيرها. ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء.
والنوع الثاني: من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء، وهو باب الوكالة والوديعة وغيرهما.
والنوع الثالث: الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه، وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها، فهذا ضبط أقسام تكاليف الله في باب جلب المنافع.
وأما تكاليف الله تعالى في باب دفع المضار فنقول: أقسام المضار خمسة لأن المضرة إما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول، أما المضار الحاصلة في النفوس فهي إما أن تحصل في كل النفس، والحكم فيه إما القصاص أو الدية أو الكفارة، وإما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها، والواجب فيه إما القصاص أو الدية أو الأرش، وأما المضار الحاصلة في الأموال، فذلك الضرر إما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار، وهو كتاب الغصب أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة، وأما المضار الحاصلة في الأديان، فهي إما الكفر وإما البدعة، أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين، وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما، ويدخل فيه أيضاً باب حد القذف وباب اللعان، وهاهنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه، لأنه ربما كان ضعيفاً فلا يلتفت إليه خصمه، فلهذا السر نصب الله تعالى الإمام لتنفيذ الأحكام، ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولاً على الغير إلا بالحجة، فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة، ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلابد من باب مشتمل عليها، فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده، ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل، وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى يبينها للمكلفين، لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية، فقال: {والحافظون لِحُدُودِ الله} وهو يتناول جملة هذه التكاليف.
واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك، فإن أعمال المكلفين قسمان: أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح، فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها ألبتة ولم يصنفوا لها كتباً وأبواباً وفصولاً. ولم يبحثوا عن دقائقها، ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى. لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه: {والحافظون لِحُدُودِ الله} متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال: {وَبَشِّرِ المؤمنين} والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} فذكر هذه الصفات التسعة، ثم ذكر عقيبها قوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين} تنبيهاً على أن البشارة المذكورة في قوله: {فاستبشروا} لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات.
فإن قيل: ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل، ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟
قلنا: لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله، والسياحة لطلب العلم، والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته، فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل، وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء، ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضاً فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح، إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب، وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا القسم على سبيل التفصيل، وذكر هذا القسم على سبيل الإجمال.


{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً.
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام أي أبويه أحدث به عهداً قيل أمك، فذهب إلى قبرها ووقف دونه، ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمر وقال: نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء، ثم زرت وبكيت، فقال: قد أذن لي فيه، فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وإني لا أغني عنها من الله شيئاً بكيت رحمة لها.
الثاني: روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب. فقال: أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فنزلت هذه الآية قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} قال الواحدي: وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام، وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد، فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً يفعل ذلك، ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه، فهذا غير مستبعد في الجملة.
الثالث: يروى عن علي أنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال: فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
الرابع: يروى أن رجلاً أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: كان أبي في الجاهلية يصل الرحم، ويقري الضيف، ويمنح من ماله. وأي أبي؟ فقال: أمات مشركاً؟ قال: نعم. قال: في ضحضاح من النار،
فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام، فقال: إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار، إن أباك لم يقل يوماً أعوذ بالله من النار المسألة الثانية: قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي: فالأول: معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين.
والثاني: معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان. وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم} وأيضاً قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار. فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وأنه لا يجوز. وأيضاً لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذبهم. فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين، وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحظ مرتبته، وأيضاً أنه قال: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين، وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئاً بعد ما أخبر الله عنه أنه لا يفعله، واحتج عليه بقول أهل النار {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 107] مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك، وهذا في غاية البعد من وجوه:
الأول: أم هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون، وذلك ممنوع، بل نص القرآن يبطله. وهو قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الأنعام: 24] والثاني: أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم، أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز، لأنه يوجب نقصان منصبه.
والثالث: أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه إما أن يكون عبثاً أو معصية. وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام.
المسألة الثالثة: أنه تعالى لما بين أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار، وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأقارب أو من الأباعد، فلهذا السبب قال تعالى: {وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى} وكون سبب النزول ما حكينا، يقوي هذا الذي قلناه.
أما قوله تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع محمداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه.
والثاني: أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم. ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد عليه الصلاة والسلام، بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى.
الثالث: أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب، وبكونه أواها أي كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس، والمقصود أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً، فكأنه قيل: إن إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفاً بالأواهية والحليمية منعه الله تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى.
المسألة الثانية: دل القرآن على أن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه.
قال تعالى حكاية عنه {واغفر لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} [الشعراء: 86] وأيضاً قال عنه: {رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ} [إبراهيم: 41] وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال: {سلام عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} [مريم: 47] وقال أيضاً: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وثبت أن الاستغفار للكافر لا يجوز. فهذا يدل على صدور هذا الذنب من إبراهيم عليه السلام.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] وفيه قولان: الأول: أن يكون الواعد أبا إبراهيم عليه السلام، والمعنى: أن أباه وعده أن يؤمن، فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى، فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو لله تبرأ منه، وترك ذلك الاستغفار.
الثاني: أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} والدليل على صحة هذا التأويل قراءة الحسن {وَعَدَهَا أَبَاهُ} بالباء، ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين.
الوجه الأول: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام، وكان يقول له آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران، وكان يتضرع إلى الله في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب المغفرة، فهذا هو الاستغفار، فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصراً على الكفر ترك تلك الدعوة.
والوجه الثاني: في الجواب أن من الناس من حمل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] على صلاة الجنازة، وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب.
قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين، وهو قوله: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] وفي هذه الآية عم هذا الحكم، ومنه من الصلاة على المشركين، سواء كان منافقاً أو كان مظهراً لذلك الشرك وهذا قول غريب.
المسألة الثالثة: اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله. فقال بعضهم: بالإصرار والموت.
وقال بعضهم: بالإصرار وحده.
وقال آخرون: لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي، وعند ذلك تبرأ منه. فكان تعالى يقول: لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه، فكونوا كذلك، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} [النساء: 125].
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة. قال: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه، والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه، فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ، وللمفسرين فيه عبارات، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأواه: الخاشع المتضرع».
وعن عمر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأواه، فقال: الدعاء ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه، فأنكر عمر، فقال عليه الصلاة والسلام: «دعها فإنها أواهة» قيل يا رسول الله وما الأواهة؟ قال: «الداعية الخاشعة المتضرعة» وقيل: معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها، كلما ذكر لنفسه تقصيراً أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً له.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الأواه، المؤمن بالخشية.
وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم.
واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل، ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده، فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له إصراره على الكفر، فأنتم بهذا المعنى أولى، وكذلك وصفه أيضاً بأنه حليم، لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب، وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب.

23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30